Powered By Blogger

السبت، 22 ديسمبر 2012

دنيا جديدة محمود تيمور

قصة قصيرة للكاتب محمود تيمور من مجموعته القصصية دنيا جديدة
للمزيد عن الكاتب محمود تيمور فضلا اتبع الرابط


القصة :  دنيا جديدة 

غادر المنزل و قد بنى عزمه على أن ينفذ فكرته ! ..
و سار فى الطريق زائغ النظرات ، و فى رأسه أتون يتأجج ، و لكن خطواته كانت متلاحقة محكمة تدل على عزيمة و اقتدار ، كأنها خطوات جندى ماض إلى حومة القتال ! ..
إنه يشبه الجندى فيما يقصد إليه ، من أداء مهمة و خوض معركة ، و لكن الفارق بينهما أن الجندى يمضى و هو فى فسحة من الأمل ، أن يعود ظافرا ، يعانق الحياة ، 
و يقتطف ما فيها من متع و مباهج ! .. أما هو ، فيسير فى مثل صلابة الجندى 
و عزمته ، بيد أنه يعلم علم اليقين أن ذهابه إلى غير رجعة ...خوض معركة يخرج منها مهزوما قد طواه الردى ! ...
و لكن كيف يعد نفسه مهزوما ، إذا انتحر ؟ ..
أليس الموت فى حقيقة الأمر ، أكبر انتصار على الحياة !..
و ماذا لقى من هذه الحياة ؟ .. إنها لحرباء خبيثة ، طالما خادعته و غررت به .. هذه الحياة لقد كانت تتفنن فى الكيد له ، و تسخر من إخفاقه ،  و تذيقه ألوانا من التعذيب 
و الإيلام ! .. هذه الحياة لقد كانت تركله و تطأه ، فينهض محنىّ الظهر ، معفر الوجه ، ليخفض هامته ثانية لتلك الجنية اللدود ، فلا تلبث أن تنحنى عليه بسياطها حتى يخرّ مثخنا بجراح الخيبة و الإذلال ! ..
هيهات للحياة أن تنال منه منالا بعد اليوم .. إنه سيقف أمامها وجها لوجه ، و يقول 
لها : لن تستطيعى منذ الآن أن تستعبدينى و تستمرئى شقائى ! .. كلا ، لن تستطيعى أن تفعلى شيئا معى ! .. ستقفين أمام رفاتى ، قليلة الحيلة ، عاجزة الوسيلة .. مهما تحاولى فليس فى مقدورك أن تلحقى بى أى أذى ! .. إنها ساعة انتصار لى .. أليس الموت فى الحقيقة أكبر انتصار على الحياة ؟ ..
و حث خطاه إلى حيث ينفذ فكرته .. و لكن أى جهة يختار ؟ .. إنه يدرى إلى أى ميدان يذهب ، و لكنه لا يدرى أى مكان فى هذا الميدان يحل فيه ؟ ..
بأى أسلوب ينتحر ؟ ..
ما أكثر الوسائل ! .. أيختار الترام ؟ .. و مثل فى ذهنه الترام ، و هو يقطع الطريق مثقلا براكبيه ، كأنه أتان حملى مكدودة .. أتان عجفاء نخرة العظام .. أيسلم لهذه الأتان رقبته طائعا مختارا ؟ أيرضاها لنفسه جلادا ؟ ..
هناك السم الزعاف .. هناك المدية الماضية .. ، هناك أفانين مما يكفل له بلوغ مأربه المنشود .. و أشرق وجهه بغتة إشراقة الظفر .. لم لا يكون النيل جدثه العظيم ؟ .. هذا الأله القادر ، الذى يتدفق منذ الأزل ، يشق الصحراء الجرداء ، فيحيلها جنات فياحة ناضرة .. إنه ليلقى بنفسه عن طيب خاطر فى هذا الفيض الزاخر بالخيرات ! .. ما أسعده حقا  إذ يشعر بأن ذراعى هذا الأب الشفيق ، تضمانه إلى صدره فتخفيانه ، فلا يلبث أن يفنى فيه ! .. أى فخر أعز من أن يغدو جزءا من ذلك الأله فى قوته و عظمته ، يشاركه فيما يغدق على البلاد من نعم و بركات ؟ ..
لقد جرب حظه فى الحياة مرات و مرات ، فباء بالإخفاق المر ! .. هو الإخفاق دائما .. ذلك الوحش الهائل الذى تجمعت فيه كل مظاهر القسوة و العنف ، ذلك الحيوان الضخم ، الذى يماثل الحيوانات المنقرضة التى عاشت قبل التاريخ .. إنه ليلاحقه حيثما حل ، يراه تارة رابضا أمامه ، و هو فى ساحة الامتحان ، يرمقه بالنظر الشزر ، و يبتسم له ابتسامته النكراء ، و يكشر عن أنياب قذرة مسنونة كرؤوس الحراب .. و يخيل إليه دائما أنه يسمع منه فحيحا ، كأنما يقول له : هأنذا لك بالمرصاد ! ...

هو الإخفاق دائما .. يعاجله أبدا فى كسب رزقه، فى تحقيق مآربه .. و أخيرا و قد سقط مريضا و طالت به العلة ، كان يرى ذلك الحيوان المنقرض  ، حيوان ما قبل التاريخ ، و قد أرسل خرطومه يستنزف دمه على مهل  ، و يستل روحه فى بطء ! .. لقد لازمه ذلك الحيوان فى مرضه  ، و لم يدعه إلا خرقة انسانية مهلهلة ، لا حيوية فيها و لا نشاط ! ..
ماذا فى هذه الحياة يستحق أن يعيش من أجله ؟ .. إنه يحيا فى بيت خاله مع أسرته ، يحيا معهم كالغريب المنبوذ .. طالما قرع سمعه صوت خاله : لوجه الله أطعمك ، 

و آويك ، فإلى متى ؟ .. و طالما تعالت صيحات التذمر و السخرية ، فيخالها دخانا كثيفا ، يتعقد و يحيط به ، حتى لا يستطيع أن يتنفس ! .. و هذا الحيوان المنقرض ، حيوان ما قبل التاريخ ، مترصدا له أبدا ، تتلاعب ابتسامته النكراء على فمه الغليظ الأدكن ، و هو يكشر عن أنيابه القذرة المسنونة كرؤوس الحراب ...
و سار الفتى ثم سار حتى دنا من ضفة النيل .. إن التخيلات الشامخة ، بهاماتها الملوكية ، لترف بأغصانها ترحابا بمقدمه  ! .. و إن الشمس الغاربة بقرصها المتوهج ، لكأنها نار وليمة تشب لاستقباله ! .. النيل ! .. نعم النيل !! .. فى عبابه الزاخر يودع عالم الشر و الفناء ، يستقبل عالم النعيم و الخلود ، و هو محوط بتلك الأناشيد العذاب ، ترددها له أطياف لا تراها العيون ، تلك الأناشيد التى لا يسمعها إلا من أقبلوا على الأبدية ، بأرواح تخلصت من الشوائب ، و شملها الطهر و الصفاء ! ..
و أصبح من ضفة النيل على قيد خطوات ، و أحس بقدميه تتثاقلان ، و قد بدأ يغشاه سحر غريب .. و اختار مكانه الملائم .. و وقف هناك وقفته الأخيرة ، و عيناه تحدقان فى الأمواج المتدفقة ، يحاول أن ينفذ إلى أعماقها .. ماذا وراء هذه الأمواج التى تتراقص على متن النهر ؟ ..
و انبعثت ضجة غير بعيدة منه ، فتلفت هنيهة حوله .. إنها حركة الطريق .. أناس بين غاد و رائح و مركبات تضج بعجلاتها و تصيح بأبواقها .. إنها ضجة الحياة ، ضجة الدنيا .. و ابتسم ابتسامة هازىء ، ثم عاد يحدق فى الماء ! ..
أحقا أن هذه الدنيا ليست جديرة بأن يعيش من أجلها ؟ .. إن الناس من أجلها يعيشون ، إنهم يسعون إلى الرزق كادحين مجاهدين .. أليس هو مثلهم انسانا ؟ .. ألا يستطيع أن يسعى كما يسعون كادحا مجاهدا ؟ و لكن هذا الإخفاق ، هذا الحيوان الهائل الكريه ، حيوان ما قبل التاريخ .. إنه رابض فى طريقه يسد  عليه المسالك ، و لن يستطيع هو بخور عزيمته أن يتغلب عليه و ينحيه عن الطريق .. أفى مقدور بعوضة أن تساور الأسد الجبار ؟ .. إنه ليشعر بالامتعاض و التأفف من نفسه ، لماذا رضى أن يكون بعوضة ، على حين يرى الناس من حوله أسودا ضارية ؟ ..


و أطال التحديق فى الماء أمامه ...
و تحفز ليقفز ، فإذا به يسمع حركة طارئة .. حركة تصحبها همسات و أنّات .. و تلفت حوله ، فتبينت عينه فى ظلمة الغروب شبحا يضطرب على حافة الشاطىء عن كثب منه .. و ألفى نفسه يكمن خلف جذع شجرة ، و أخذ يرقب الشبح من مكمنه ، و يحدّ بصره ، فإذا الشبح فتاة تتعثر فى خطاها ، و بين يديها لفيفة تضمها إلى صدرها ضمة رحمة و حنان .. و توقفت الفتاة ، و أطالت النظر إلى اللفيفة ، ثم مهدت لها مكانا بين الأعشاب النابتة على حافة الشاطىء ، و وضعتها فى رفق ، و ما لبثت أن انحنت عليها تقبلها فى شغف ، و نهضت بغتة مندفعة صوب النهر .. و فى لمحة هوت فى الماء ، فانبعث لسقوطها صوت مكتوم مفزع ، كأنه صوت وتر فى قيثارة شد إلى أقصاه حتى انقطع ! ..

و ألفى الفتى نفسه يهوى حيث هوت الفتاة ، و يغوص وراءها ، فى ذلك الخضم المتلاطم .. و بعد جهد و مغالبة استطاع أن يصل إليها ، و أن يعود بها إلى الشاطىء ، خائرة القوى ، فاقدة للوعى ! ..
و أخذ يسعفها بما هدته إليه الفطرة ، و نجح فى مسعاه ، فإذا الحياة تضطرب بين جوانح الفتاة ، فوضع رأسها على ركبتيه ، و عيناه تتوسمان وجهها ، و قد بدأت مواكب الليل تتزاحم إثر النهار الغارب تطارد فلول الضوء ! .. و لكن تلك المواكب لم تلبث أن وقفت خاشعة ، أمام ذلك الملك العظيم ، الذى بدأ يعلو من الشرق قرصا أرجوانيا ، يتهادى فى روعة و جلال .. فتصاغرت أمامه جحافل الليل الزاحف ، 
و أخذت تتزايل ..
  و سطع الضياء الفتىّ على وجه الفتاة ، فإذا بمحياها هادىء لم يزده امتقاع الإعياء إلا وسامة على وسامة ، و كان شعرها البليل مسدلا حول رأسها تتناثر خصلاته على كتفيها ، و قد تدلت بعض هذه الخصلات ، تخفى ما ظهر من صدر ناهد ، كان قد شق القميص و أسفر ! ..
و رفعت الفتاة جفنيها ، فإذا عينان زرقاوان تماثلان زرقة السماء الصاحية ، تختلج أهدابهما الوطاف حولهما ، كأنها أحراس ساهرون  على ذلك النبع الفياض ..
و نهضت الفتاة برأسها قليلا و همهمت جزعة :
أين أنا ؟ ...
فمسح الفتى على شعرها ، و قال فى لهجة ظفر و وثوق :
أنت فى حرز أمين ...
و تلاقت عيناهما فى ذلك الضوء الفضى الساجى الذى يشيع فى النفس الأمن و الصفاء .. و جعلت الفتاة ترنو فى شبه غيبوبة تختلط حيالها الحقائق  بالأحلام  .. و أطال الفتى النظر إلى عينيها ، و أحس بأن هذا النبع قد أخذ يفيض بالخيرات ، و إذا هو يرى فيه عوالم جديدة ، ذات سماوات و أرضين ، لا عهد له بها من قبل ، و إنه ليسمع من ذلك النبع الفياض خريرا لم يسمع قط أبهج منه ...
و مرت على الفتى فترة ، و عيناه موصولتان بعينيها ... إنها لحياة جياشة تتفتح له ، حياة بعيدة عن واديه القديم بقفره و جدبه ..
و اعتلجت فى رأسه شتى الخواطر و الأفكار .. يا للعجب ! .. إن الله قد بعث به إلى ذلك النهر لينقذ حياة هذه الفتاة الناعسة .. هناك قوانين قاهرة ، لا يستطيع المرء أن يقف لها على تفسير .. ألسنا مسيرين حقا لا مخيرين ؟ لقد أنقذ روحا بشرية من صنع الله .. أنقذ مخلوقا من بنى جنسه ، رد إليه الحياة ثانية ، بعد أن أوشكت أن تفر عنه ..
إنه غالب الموت فغلبه فى المعركة .. إن الله أراد لهذه الفتاة الحياة ، فكان هو فى ساعته يد الله ! .. إنه يحس قوة الله فى جسمه ، و عظمته تسرى فى أوصاله ! ..
و اهتز الفتى اهتزازة اعتداد بنفسه و اعتزاز ...
و سمع الفتاة تهمهم :
لم أنقذتنى يا سيدى ؟ ...
فقال و عيناه ما زالتا موصولتين بعينيها :
لم يكن لك أن تجرمى فى حق نفسك هذا الجرم ...
 و استمع لصدى صوته فى نفسه ، فكأنه يستمع إلى انسان آخر يتكلم ، كائن جديد ينطق فى لهجة جديدة ..
أجابت الفتاة :
و هل من العدل أن يحيا المرء فى هذه الدنيا ، يعانى من الظلم و يشقى ؟ ..
 - ليس لنا أن نتخير ، بل نصبر على ما نحن فيه .. ثم نجاهد و نكافح و نأمل !!..
- لقد جاهدت ، فبئت بالخيبة ، و فقدت كل أمل ..
- حاولى أن تخلقى الأمل خلقا ، و أن تتصيدى السعادة تصيدا ! ..
- حاولت فأخفقت ...
 - حاولى أيضا و لا تيأسى .. يجب أن يكون فى قلبك إيمان أن الحياة ليست عبثا ..
 - كيف ؟ 
- فكرى للحظة .. إن الله لم يخلقنا فى هذه الدنيا سدى ، و إلا فما هى حكمته فى أن يقذف بنا فى هذا التيار ، نصاوله و نصارعه ، دون جدوى ؟ .. إن لكل منا رسالة يؤديها ! ..
- و هل لمخلوقة حقيرة مثلى رسالة ؟ ..
- أحقر كائن فى الأرض له رسالة يجب أن يؤديها ، و إن خفى علينا و عليه أمرها ..
و غمغمت الفتاة :
- رسالة ؟ .. أنا أؤدى رسالة ؟ ..
و بغتة تلفتت حولها متفزعة  ، و صاحت :
طفلتى !
و هرع الفتى و الفتاة إلى مكان اللفيفة ، فألفيا الطفلة مدرجة فى لفائفها ، ناعمة العين بالنظر إلى القمر ، مبهورة بضوئه اللألاء ، تتحرك يدها فى فرحة ، و هى مستغرقة فى مناغاة و مناجاة ..
فالتقطت الأم طفلتها ، و احتوتها فى صدرها ، و جعلت تغمرها بقبلها الحنون ..
ثم شرعت تقص على الفتى قصة ذلك البؤس الذى دفع بها إلى القضاء على نفسها .. إنها قصة شائعة تتلخص فى كلمات قلائل :
حب ، فعبث بالفضيلة ، فافتضاح ، فطرد من بيت الأسرة ، فتخل من الحبيب ..
فأمسك بيدها يلاطفها و هو يقول ، و قد أشار إلى الطفلة ، يداعب وجنتيها :
ألا تعترفين معى بأن فى الحياة نواحى جميلة طيبة ، و أن الله لم يخلقنا فيها سدى ؟
كان الفتى قد ترك فى بيته كتابا ، يخبر أهله فيه بأنه معتزم التخلص من الحياة ، 
و كانت الفتاة قد تركت فى بيتها أيضا مثل هذا الكتاب .
إذن لقد انتحرا .. تخلصا من دنياهما القديمة التى شقيا بها ، و شقت بهما حينا من الدهر ..
لقد أنقذ الفتى روحين ، و إنه لمسئول عن مصيرهما ..
و نهضا .. و طفقا يسيران ، هو يخطو مرفوع الهامة ، تتقد عينام عزما و حيوية ، 
و هى بجانبه معتمدة على ذراعه ، يشرق على محياها سيما الاطمئنان ..
إنهما يسيران ..
يسيران و قلباهما يخفقان بشعور واحد ، شعور نقى ناصع ، كضياء هذا الكوكب المتألق الذى يغمرهم بفيضه اللؤلوئى ..
يسيران نحو دنيا جديدة ...    

انتهت القصة كما كتبها الكاتب و يليها التحليل و التعقيب     

 
     

هناك 12 تعليقًا: